هو بشر من البشر.. هذه حقيقة لا ريب فيها: «قل إنما أنا بشر مثلكم».. ولكن لقياه ومساواته مع البشرية في هذه الصفة، إذ تؤكد حقيقتين قاطعتين هما:
أ ـ الحقيقة الجينية أو (البيلوجية) لسائر البشر من دون استثناء.
ب ـ حقيقة «نفي الألوهية» عن البشر، وعن كل مخلوق آخر. فالإله واحد لا شريك له في إلهيته.
المساواة في البشرية إذ تؤكد هاتين الحقيقتين، لا تنتقص ـ قط ـ من (المقام الخاص الرفيع) لخاتم الأنبياء والمرسلين: سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمع التقرير والاحتفاظ العقدي بـ «الفروق» بين مقام الألوهية، ومقام النبوة يجب أن يأخذ النبي المحمد حقه الكامل من التمجيد والتوقير والإجلال: «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم».
ومن (الشكلية الفقهية) الجافة، أو من التنطع الفقهي المحنط: أن يقال: إن الصلاة على النبي واجبة في العمر مرة واحدة: «وفرض عليه أن يأتي بها مرة في دهره»!!!.. فالمسلم يحب الرسول ويصلي عليه كلما استشعر نعمة التوحيد، وتذوق معنى العبادة، وتلا القرآن، ورفع رأسه بين الناس حرا عزيزا، وجَدَّ في العمل الصالح، وأحسن إلى الخلق، والتزم منهج الاعتدال في التفكير والقول والفعل والسلوك.. ففي هذه الأحوال كلها: يملأ المسلم فؤاده وفمه بالصلاة على النبي الذي هداه إلى ذلك كله: ومثله معه.
والحق: أن البشرية كلها مدينة لهذا النبي الطيب الجليل الرؤوف الرحيم، فهو الذي انتقل بها النقلة الكبرى: بإعلاء قيمة العقل، وتفجير طاقات التفكير والنظر، وتحرير الإرادة والضمير الإنسانيين من أغلال الخرافة والوثنية والاستبداد، وإرساء معايير المساواة، وتأصيل التعارف الإنساني بين الشعوب كافة، وإقامة موازين العدل مع الخصوم أنفسهم، والاحتفاء والتسامي بقيمة التراث الإنساني المشترك، والدفاع عن الشخصيات الصالحة: من كل الأعراق والبيئات وحقب التاريخ: دفاع حق واعتزاز وسماحة.
وعلى كثرة ما كتبه الكاتبون عن النبي، فإن نهر خصائصه ومكارمه الرائق الحلو لا يزال يتدفق بالمزيد من المكارم والمعالي والكمالات: فيضا غدقا، يرتوي منه المؤمنون به، ويرتشق منه كل إنسان ذي همة، وذي تطلع إلى (النبل الإنساني الوهاج).
ولنغترف ـ في ومضة المقال هذه ـ غرفتين اثنتين من نهره العذب وهما: الجمال والحب في كلامه وفعله صلى الله عليه وآله وسلم:
أولاً: الجمال
لقد بعث النبي بتعاليم ومقاصد موفورة.. منها: مقصد الجمال، أي بعث لتعليم الناس «الجمال» وتجديد إحساسه ووعيه به.. فالله جل ثناؤه ـ جميل ـ والقرآن جميل.. والكون جميل.. وإذ بعث النبي لتعليم الناس: هذا الجمال الشامل، فإنه مما لا ريب فيه: أن يكون له من ذلك أوفى الحظوظ.. وقد كان:
1 ـ جمال (التبسم).. نعم.. التبسم نوع من أنواع الجمال الراقي، وهي لغة (إنسانية عالمية)، بمعنى أننا إذا رأينا ـ في التلفزيون مثلا ـ: إنسانا كوريا أو المانيا او سنغاليا او أمريكيا، أو اي انسان من اي جنس، إذا رأيناه يبتسم نفهم انه يبتسم بما في هذا الابتسام من إيحاء بالانشراح والغبطة والود الإنساني.. وهذه صورة جميلة نقيض لصورة الاكتئاب والتجهم والعبوس.
ولذا كان من أهم ما يتدرب عليه المشتغلون بالعلاقات العامة هو: ابتسم.. كيف تبتسم؟.. كيف تستديم الابتسامة؟.. ويقول علماء اللغة: التبسم مبادئ الضحك وانبساط في الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور.
التبسم ـ من ثم ـ جمال من الجمال.. ولقد كان النبي متصفا بالتبسم سائر يومه. وسائر حياته. فقد كان أكثر الناس تبسما. فعن جرير قال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي.. والنبي وهو يتحقق بجمال التبسم، فإنه يدعو إليه، ويغري به فيقول: «تبسمك في وجه أخيك صدقة».. ويقول: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق»: وجه منبسط باسم مريح.
2 ـ جمال الزينة الظاهرة.. كان النبي يلبس أجمل ما يجد او كان يتجمل للقاء الوفود: بما يليق به وبهم، أي يلبس ما يناسب مقامات الوفود وأعرافهم. وكان يحب الطيب. تقول عائشة: «كنت أطيب النبي بأطيب ما يجد».. وكان يمنع من أكل ثوماً أو بصلاً من دخول المسجد.. ويدعو إلى الجمال ـ بصفة عامة ـ بحسبانه (محبوبا) من محبوبات الله فيقول: «إن الله جميل يحب الجمال».
3 ـ (جمال الرفق) في السلوك والفعل والكلام.. يقول صلى الله عليه وسلم: «ان الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه».. فالرفق (زينة)، أي جمال، في حين: أن العنف قبح دميم. وقد كان النبي رفيقا جميلا في أمره كله، ولذا أمر بالرفق في الأمر كله: خاصه وعامه.
4 ـ (جمال اللطف):
أ ـ كان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء طفل: تقديرا لقلق أمه عليه.
ب ـ وكان يوقف زحف الجيش: اهتماما بأمر عصفورة فجعت في أولادها حين أخذ بعض الجند هؤلاء العصافير الصغار ولم يستأنف الجيش تحركه حتى عادت العصافير إلى أمها.
جـ ـ وكان لا يواجه الناس بالعتاب العيني المباشر. بل يقول: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه».. ويقول ابن حجر ـ في الفتح ـ: (باب من لم يواجه الناس بالعتاب)، أي حياء منهم.
د ـ وكان يلاطف الأطفال ويداعبهم. قال أنس: إن كان النبي ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير، ما فعل النغير»؟
هـ ـ وكان يقر الترويح في بيته ويشجع عليه. قالت عائشة: كنت ألعب بالبنات (باللعب) عند النبي، وكان لي صواحب يلعبن معي. فكان رسول الله إذا دخل يتقمعن منه، فيسربهن إلي فيلعبن معي».
و ـ وكان يقول: «لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي».. يقول ابن حجر ـ في الفتح ـ: «قال الخطابي: لقست وخبثت بمعنى واحد، وإنما كره النبي من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من ذلك، وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن. ويؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة».. والشاهد: ان من اللطف في التعامل (مع النفس): ألا يقول المرء: خبثت نفسي!!
ز ـ ومن جمال اللطف: التفنن في إكرام الزوجة. فقد كان النبي يضع ركبته لتضع عليها صفية زوجه رجلها لكي تصعد إلى الناقة وتستوي عليها.
حـ ـ وكان يبشر بـ «لطف» الله بعباده فيقول: «لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه. فهو عنده فوق العرش: ان رحمتي تغلب غضبي».
ثانيا: الحب.. توشك كلمات أصيلة جليلة: أن تهجر أو تبتذل. من هذه الكلمات التي يخشى هجرانها أو سوء استعمالها: كلمة (حب).. والحقيقة: أن (الحب) أصل في الدين، وأصل العلاقات العظيمة المتناهية في السمو والكمال.
فالحب: أصل العلاقة بالله. فالله يحب التوابين ويحب المتطهرين: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين».. ويحب الصابرين.. ويحب المحسنين.. ويحب المتوكلين.. ويحب المقسطين.
والإيمان هو غرس الله المزدان بالحب في قلب المؤمن «ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم».
من هنا، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم: داعية حب: بكلامه وفعله.. فقد قال:
1 ـ «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما».
2 ـ «يا معاذ والله إني لأحبك».
3 ـ «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا».
4 ـ قيل يا رسول الله: من أحب الناس إليك؟. قال: عائشة.. قيل من الرجال؟. قال: أبوها.
5 ـ ومن دعائه المحب الأواب: «اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب»..
في حديث واحد: تكررت كلمة حب: سبع مرات. ولهذا دلالة ساطعة وهي: أن الحب سيد القيم وأعظم العلاقات.
6 ـ وفي العلاقة الوفية بالمكان. يقول النبي: «أحد جبل يحبنا ونحبه».
ليجدد اتباع محمد إحساسهم ويقينهم بالجمال الديني والكوني، وبالحب الذي هو أصل الأصول في العلاقات الرشيدة الحميمة المضيئة فبدون الجمال والحب: لا يصح تدين. ولا تصلح دنيا.. وهل تصلح هذه، أو يصح ذاك بالقبح والكراهية؟